بحث هذه المدونة الإلكترونية

Translate

الأحد، 18 يونيو 2023

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة


 فضل العشر  الأوائل  من ذي الحجة 

إن فضل العشر من ذي الحجة فضل لا يوصف ولا يقدر بثمن، فمن مواسم الطاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة التي فضلها الله تعالى على سائر أيام العام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر. قالوا ولا الجهاد في سبيل الله؟!! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء” أخرجه البخاري 2/457. وعنه أيضا رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى” قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء” رواه الدارمي 1/357 وإسناده حسن كما في الإرواء 3/398. فهذه النصوص وغيرها تدل على فضل العشر من ذي الحجة وأن هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة من غير استثناء شيء منها، حتى العشر الأواخر من رمضان. ولكن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وبهذا يجتمع شمل الأدلة. انظر تفسير ابن كثير 5/412. وفضل العشر من ذي الحجة جاء من أمور كثيرة منها: 1- أن الله تعالى أقسم بها: والإقسام بالشيء دليل على أهميته وعظم نفعه، قال تعالى: (والفجر وليال عشر) قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة. قال ابن كثير: “وهو الصحيح” تفسير ابن كثير8/413. 2- أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأنها أفضل أيام الدنيا كما تقدم في الحديث الصحيح. 3- أنه حث فيها على العمل الصالح: لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان أيضا وهذا خاص بحجاج بيت الله الحرام. 4- أنه أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”. أخرجه أحمد 7/224 وصحّح إسناده أحمد شاكر. 5- أن فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين وصيامه يكفّر آثام سنتين، وفي العشر أيضا يوم النحر الذي هو أعظم أيام السنة على الإطلاق وهو يوم الحج الأكبر الذي يجتمع فيه من الطاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره. 6- أن فيها الأضحية والحج. في وظائف عشر ذي الحجة: إن إدراك هذا العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون. وواجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذا العشر بمزيد من العناية، وأن يجاهد نفسه بالطاعة. وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخيرات، وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لعبادة مولاه. فمن الأعمال الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في عشر ذي الحجة: 1- الصيام: فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال. وقد اصطفاه الله تعالى لنفسه كما في الحديث القدسي: “قال الله: كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به” أخرجه البخاري 1805. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. أول اثنين من الشهر وخميسين” أخرجه النسائي 4/205 وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/462. 2- التكبير: فيسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر. والجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهارا للعبادة، وإعلانا بتعظيم الله تعالى. ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة. قال الله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) (الحج: 28). والجمهور على أن الأيام المعلومات هي أيام العشر لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الأيام المعلومات: أيام العشر)، وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وهناك صفات أخرى. والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولا سيما في أول العشر فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيرا للغافلين، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، والمراد أن الناس يتذكرون التكبير فيكبر كل واحد بمفرده وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد فإن هذا غير مشروع. إن إحياء ما اندثر من السنن أو كاد فيه ثواب عظيم دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا) أخرجه الترمذي 7/443 وهو حديث حسن لشواهده. 3- أداء الحج والعمرة: إن من أفضل ما يعمل في هذه العشر حج بيت الله الحرم، فمن وفقه الله تعالى لحج بيته وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب فله نصيب -إن شاء الله- من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج: (المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). 4- الإكثار من الأعمال الصالحة عموما: لأن العمل الصالح محبوب إلى الله تعالى وهذا يستلزم عِظَم ثوابه عند الله تعالى. فمن لم يمكنه الحجّ فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة. 5- الأضحية: ومن الأعمال الصالحة في هذا العشر التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي واستسمانها واستحسانها وبذل المال في سبيل الله تعالى. 6- التوبة النصوح: ومما يتأكد في هذا العشر التوبة إلى الله تعالى والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب. والتوبة هي الرجوع إلى الله تعالى وترك ما يكرهه الله ظاهرا وباطنا ندما على ما مضى، وتركا في الحال، وعزما على ألا يعود والاستقامة على الحق بفعل ما يحبه الله تعالى. والواجب على المسلم إذا تلبس بمعصية أن يبادر إلى التوبة حالا بدون تمهل لأنه: أولا: لا يدري في أي لحظة يموت. ثانيا: لأن السيئات تجر أخواتها. وللتوبة في الأزمنة الفاضلة شأن عظيم؛ لأن الغالب إقبال النفوس على الطاعات ورغبتها في الخير فيحصل الاعتراف بالذنب والندم على ما مضى. وإلا فالتوبة واجبة في جميع الأزمان، فإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح مع أعمال فاضلة في أزمنة فاضلة فهذا عنوان الفلاح إن شاء الله. قال تعالى: (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين) (القصص:67). فليحرص المسلم على مواسم الخير فإنها سريعة الانقضاء، وليقدم لنفسه عملا صالحا يجد ثوابه أحوج ما يكون إليه: [فإن الثواب قليل، والرحيل قريب، والطريق مُخْوِف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والله تعالى بالمرصاد وإليه المرجع والمآب (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عِوَضٌ ولا تُقدَّر بقيمة، المبادرةَ المبادرةَ بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، وقبل أن يندم المفرّط على ما فعل، وقبل أن يسأل الرجعة فلا يُجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت بين المؤمِّل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرء محبوسا في حفرته بما قدَّم من عمل.

💥💥💥💥

من نفحات الله على عباده  فضل العشر الأوائل من ذي الحجة  والرسول يدعونا إلى مَزِيد من العمل الصالح فيها ؛ لأن العمل في هذه الفترة له منزلة عظيمة عند الله تعالى، وقد اجتمع لعشر ذي الحجة من دواعي التفضيل أن هذه الأيام من الأشهر الحرم ، وأن فيها يوم عرفة، واستثمار هذه الأيام يكون بالتوبة الصادقة والاستقامة على الحق والاعتصام بحبل الله المَتِين. يقول الدكتور محمد سيد أحمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر: إن لله تعالى نفحات على عباده تتجلَّى في أوقات وأماكن يختارُها المولى جل شأنه ويصطفيها ترغيبًا في الطاعة ومُضاعَفة للثواب، حتى يزداد الناس حبًّا لله واستقامةً على سبيل الرشاد، من هذه النفَحات عشر ذي الحجة، من أول شهر ذي الحجة إلى اليوم العاشر منه وهو المسمى يوم النحر أو عيد الأضحى. وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه البخاري: “ما من أيام العمل الصالح فيها أفضلُ منه في هذه العشر ـ يعني العشر الأوائل من ذي الحجة – قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء”، فالرسول الكريم يدعونا إلى مَزِيد من العمل الصالح وفعل الخير والبر والمعروف لأن العمل في هذه الفترة الزمنية له ثواب كبير ومنزلة عظيمة عند الله تعالى، فالمسلم بعد وفائه بفرائض الدين وأركانه التي يتحتَّم عليه أداؤها والقيام بها يستزيد من نوافل الصلاة والصيام والصدقة وصلة الرحم ومساعدة المحتاجين ومساندة البؤساء وكفالة اليتامى وتفريج هموم المكروبين. وهذا العمل الصالح مطلوب في كل وقت لكنه يتأكد في العشر الأوائل من ذي الحجة، وإذا علمنا أن المجاهد في سبيل الله موصول الثواب دائمًا وأنه يَعدِل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يَفتُر من صيام ولا صلاة ـ أدركنا مدى فضل الله على عباده في عشر ذي الحجة، قال الله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغَبُوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يُصيبهم ظمأ ولا نصَب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئًا يَغِيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كُتِب لهم به عمل صالح إن الله لا يُضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة لا كبيرة ولا يقطعون واديًا إلا كتب لهم ليجزيَهم الله أحسن ما كانوا يعملون) التوبة : 120 ـ 121. وقد اجتمع لعشر ذي الحجة من دواعي التفضيل الشيء الكثير.. فهذه الأيام من الأشهر الحرم التي عظَّمها الله تعالى وجعلها دينًا قيمًا، وتلك الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. قال الله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلَق السماوات والأرض منها أربعة حرُم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة: 36 ومن معالم هذه العشر الأوائل من ذي الحجة يوم عرفة، الذي يمثل الركن الأساسي في الحج، فالحج عرفة، فمَن فاته الوُقوف بعرفة فاتَهُ الحجُّ وعليه أن يقضيَه في العام التالي، وصيام يوم عرفة له فضل جزيل. وفي صحيح مسلم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: “صيام يوم عرفة أحتَسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبلَه والسنة التي بعده”، والمعنى أنه يكفِّر ذنوب صائمه في سنتين، والمراد الصغائر ورفع الدرجات، أما الكبائر فتحتاج إلى توبة نَصُوح، وأما حقوق العباد فتحتاج إلى رد الحقوق لأصحابها. ولا يُستَحبُّ صيام هذا اليوم للحاج لأنه مشغول بأداء المناسك ولكيلا يضعف عن أداء الطاعات المنوطة بالحج، وبهذا يكون المسلمون جميعًا وقوفًا على باب الرحمة والمغفرة، هذا بحجه وذاك بصومه، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فضل يوم عرفة ـ كما في صحيح مسلم: “ما من يوم أكثر من أن يعتِق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء”، والمراد بالدنو هنا دنو الرحمة والكرامة لا دنو المسافة والمماسة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وفي رواية لأحمد وابن حبان والحاكم قال ـ عليه الصلاة والسلام: “إن الله يباهي بأهل عرَفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثًا غُبْرًا. وقد يتساءل البعض ويقول: أيهما أفضل هذه العشر الأوائل من ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان التي أحياها الرسول وأيقظ أهله فيها وجدَّ وشدَّ المِئْزَر؟ والجواب:أن أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان؛ لأن في الأولى يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، ويوم عرفة ويوم التروية وهي أيام مباركة، وأن ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة لأن في الأولى ليلة القَدْر، وهي خير من ألف شهر، أي أن التفضيل في عشر ذي الحجة باعتبار الأيام، وفي عشر رمضانَ باعتبار الليالي. فما أحرانا أن نستقبل هذه المناسبات الكريمة بالتوبة الصادقة والاستقامة على الحق والاعتصام بحبل الله القوي المَتِين.

💥💥💥💥

من أعظم مواسم الخير المتجددة موسم أيام عشر ذي الحجة التي يكون العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من أيام الدنيا كلها؛ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، بينما ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل الليالي على التحقيق، فأيام عشر ذي الحجة أيام أعمال البر والخير والإحسان، وكان دأب الصالحين من علماء الأمة في عشر ذي الحجة العبادة والتفرغ الكامل من الشواغل، وذلك لأن أيامها يسيرة معدودة لكنها عظيمة تتوفر فيها أمهات العبادة. قال ابن حجر في الفتح: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره[1] ومن أجل مكانة هذه الأيام الفاضلة أقسم بها الله تعالى، والله لا يقسم إلا بعظيم، يقول سبحانه تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1، 2]. قال ابن كثير: “والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السّلف والخلف وهو الصحيح[2] إن في هذا لاستدعاء إلى العزم والحرص الأكيد في استقبال هذه الأيام المباركات واستغنامها بالطاعات القولية والفعلية، كما هو ديدن الصالحين في استثمار أوقاتها وساعاتها، ولهم في ذلك أحوال وسير عطرة يحسن الإقتداء بهم فيها. حال الصالحين في عشر ذي الحجة يقول ابن الجوزي رحمه الله ناصحا:” وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم[3] الوقوف عند سير الصالحين وإدمان النظر في أحوالهم وأخبارهم في مواسم الطاعات مما يشحذ الهمم، ويحث على التأسي، ويغرس في النفوس الاندفاع إلى نحو أشرف المقامات السامية في سير إلى الله تعالى بأنواع من الطاعات، فالطبع منقاد كما يقال. وصدق قائل: وإذا فاتك التفات إلى الماضي فقد غاب عنك وجه التأسي قال بعضهم: “الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب أوليائه” [4] قال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم.[5] هذا، فإن لأئمتنا الصالحين نظرة خاصة لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يعني العشر من ذي الحجة“- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”[6]وقد عظم الصالحون أيام عشر ذى الحجة أيما التعظيم، وعمروها بالأعمال الصالحة والأقوال الحسنة، وقدروها لتقدير النبي صلى الله عليه وسلم لها، ويبرز ذلك من أحوالهم الآتية: إيقاف الدرس في أيام العشر حتى يتحقق تمام التقدير وحسن الاستقبال للأيام المباركة؛ رأى بعض أئمة المحدثين عدم عقد مجلس التحديث في أيام العشر رغبة في اغتنام الأوقات بالجد والتشمير. قال الأثرم أحد تلاميذ الإمام أحمد: أتينا أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل، في عشر الأضحى فقال: قال أبو عوانة: كنا نأتي سعيد الجريري في العشر فيقول: “هذه أيام شغل وللناس حاجات، وابن آدم إلى الملال ما هو[7] وإنما روى الإمام أحمد هذه الحكاية لتلاميذه في هذه المناسبة على وجه التأسي. التحفظ من جرح الرواة في أيام العشر جرح نقاد الحديث للرواة يعني القدح في عدالتهم إما بكذبهم أو فسقهم أو غير ذلك، ثم ينبنى على نتيجة الجرح رد حديث الراوى المجروح أو تليينه، ولذا يحتاج القول في هذا الباب إلى دقة الدراية وتمام الورع كي لا يطعن في عرض عباد الله بغير حق، وقيل لابن أبي حاتم يوما وهو يقرأ في كتابه الجرح والتعديل: “كم من هؤلاء القوم قد حطُّوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة، ومائتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم؟ فبكى عبد الرحمن وَرَعا[8]. ولهذا كان بعض المحدثون يتحفظون ويتحرون في أيام العشر أعظم التَّحَرِّي من الحكم على الحديث خوفا من الزلة التى قد تخدش أعمالهم الصالحة في موسم القربات، بل يفضلون تأجيل النظر في الحديث إلى ما بعد أيام العشر حتى يتم فيه البحث اللائق. يقول أبو حاتم الرازي:” أتيت يحيى بن معين أيام العشر ـ عشر ذي الحجة ـ وكان معي شيء مكتوب ـ يعنى: تسمية ناقلى الآثار ـ وكنت أسأله خفياً فيجيبنى، فلما أكثرت عليه، قال: عندك مكتوب؟ قلت: نعم، فأخذه فنظر فيه فقال: أياماً مثل هذا ؟! وذكر الناس فيها؟ فأبى أن يجيبنى وقال: لو سألت من حفظك شيئاً لأجبتك، فأما أن تدونه فإنى أكره[9] وكذا ذكر البرذعي في سؤالاته لأبي زرعة الرازي، أنه سأل أبا زرعة عن حديث ابن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، في عَشْرِ ذي الحجة، وقال البرذعي: فأبى – يعني أبا زرعة – أن يقرأه علي، وقال لي :فيه كلامٌ أخاف أن لا يصحّ، فلما ألححت عليه، قال: فأخِّرْه حتى تخرج العشر، فإني أكره أن أُحَدِّثَ بمثل هذا في العَشْر، يعني حديث أبي غسان عن جميع بن عمر[10] وهذا يدل على قيمة ديانة المحدثين وصيانتهم لعلم السنة النبوية. قوة العبادة في أيام عشر ذي الحجة كان دأب الصالحين من أول شعاع أيام العشر المباركة إلى آخر لحظتها هو التقلب بين أنواع من العبادات والطاعات، ومجاهدة النفس على حسن استثمار الليالي والنهار لتكون أحوالهم إلى عمل صالح وقول حسن، ومن أبرز دأبهم في هذه الأيام: 1. قيام الليل إن قيام الليام في عامة حياة السلف سنة متبعة لما فيه من النفحات الإلهية، إلا أنه تتأكد قوة عزمهم عليه في كل أزمنة فاضلة، مثل أيام العشر لما فيها من دورة روحية إيمانية، وهذا التابعي سعيد بن جبير، كان إذا دخلت أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه، بل يأمر ويقول: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة.[11] وكان الحافظ ابن عساكر يعتكف في شهر رمضان، وعشر ذي الحجة.[12] 2. الإكثار من الأذكار ومن شعائر عشرِ ذي الحِجَّةِ العظيمة المشروعة التكبير والتهليل والتحميد ونحوه، قال تعالى: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، قال ابنُ عبَّاسٍ: “أيامُ العَشْرِ” وكان الناس بما فيهم الصحابة الكرام يكثرون التكبير في هذه الأيام بألسنتهم وقلوبهم، وينوّعون ما بين الأذكار آناء الليل وأطراف النهار في الأماكن العامة والخاصة وبأصوات مرتفعة. وعن ثابت البناني قال: كان الناس يكبرون أيام العشر حتى نهاهم الحجاج، والأمر بمكة على ذلك إلى اليوم يكبر الناس في الأسواق في العشر”.[13] وعن ميمون بن مهران، قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها[14] وسمع مجاهد رجلا كبّر أيام العشر فقال مجاهد: أفلا رفع صوته؛ فلقد أدركتهم وإن الرجل ليكبر في المسجد فيرتج بها أهل المسجد، ثم يخرج الصوت إلى أهل الوادي حتى يبلغ الأبطح فيرتج بها أهل الأبطح وإنما أصلها من رجل [15] 3. الحرص على الصيام صيام أيام العشر من أغظم العمل الصالح الذى حرص عليه الصالحون، وكان أئمة التابعين من أمثال محمد بن سيرين ومجاهد وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس يصومون العشر كله، بل كان عطاء يتكلف صيامها[16] لشدة رغبة في اغتنام خير الأيام، وكان الحسن البصري يكره أن يتطوع بصيام وعليه قضاء من رمضان إلا العشر، وآكد الصيام صوم يوم عرفة، لذا ترى سعيد بن جبير يقول:” أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة”[17] لورود الحديث الخاص في فضل صومه. 4. العمرة أداء مناسك العمرة في أيام فاضلة وأوقات مباركة من خير الأعمال وأعظم الثواب، وزيادة ثواب العمل بزيادة شرف الزمان، وهذا الذي يجعل ابن عمر رضي الله عنهما يقول: عمرة في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي”.[18] وعن أبي معن قال: رأيت جابر بن زيد وأبا العالية اعتمرا في العشر”[19] وهكذا تنافس الصالحين في هذه الأيام الفاضلة بالأعمال الصالحة دون كلل ولا ملل، حيث لا تكاد تنقطع لهم عبادة في ساعات اليوم والليلة اغتناما للوقت ورغية للأجر واستشعارا لحرمة الزمان. وحري بلبيب مسلم أن يقتدي بهؤلاء البررة ويجتهد ويكثر بما يتيسر له من أنواع الطاعات والعبادات، ولا يتكلف بما لا يطيق، إذ المقصود من الاقتداء بهم اغتنام موسم الخير دون أن يمر بلا فائدة، بل ينظر إلى الأذكار المشروعة، أو قراءة القرآن، أو النوافل من الصلاة والصيام والصدقة أو أوجه البر الأخرى ويكثر مما يتيسر له منها، أو يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الدعوة ونحو ذلك مما في حدود طاقته حتى لا تمر أيام العشر مرورا عابرا. وكذا يجب أن يستشعر بحرمة هذه الأيام من حيث ارتكاب المعصية، فكما أن الطاعات يتضاعف أجرها في أيام العشر، فإن المعاصي كذلك أعظم إثما فيها وسببا للبعد عن الله تعالى. يقول القيم رحمه الله: “وقد دل النقل والعقل والفطرة وتجارب الأمم -على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها – على أن التقرب إلى الله رب العالمين وطلب مرضاته والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله تعالى، واستدفعت نقمه بمثل طاعته، والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه”.[20] قال الحافظُ ابنُ رجب رحمه الله: لمَّا كان اللهُ سبحانه قد وضعَ في نفوسِ المؤمنين حنينًا إلى مشاهدةِ بيته الحرامِ، وليس كلُّ أحدٍ قادرًا على مشاهدتِه في كلِّ عامٍ، فرَضَ على المستطيعِ الحجَّ مرةً واحدةً في عُمرِه، وجعلَ موسمَ العشرِ مشتركًا بين السائرينَ والقاعدينَ، فمَن عجزَ عن الحجِّ في عامٍ، قَدَرَ في العشرِ على عملٍ يعملُه في بيتِه يكونُ أفضلَ مِن الجهادِ الذي هو أفضلُ مِن الحجِّ.[21] إذن، وفي سير الصالحين وحكايتهم كفاية لمن يريد لزوم الطريقة المثلى إلى الله تعالى في جميع حياته، وفي برنامج عملي في استقبال أيام العشر واستثمارها على وجه الخصوص. ورحم الله الإمام أبو حنيفة القائل: “الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إليّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم[22]. [1] فتح الباري 2/460 [2] تفسير ابن كثير 8/ 381 [3] صيد الخاطر ص: 440 [4] أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض 1/6 [5] التبصرة لابن الجوزي 2/ 124 [6] رواه البخاري (969( [7] الأثرم للأمام أحمد بن حنبل، ص: 39 [8] الكفاية للخطيب (71) [9] الجرح والتعديل 1 / 317 [10] سؤالات البرذعي لأبي زرعة الرازي 2 / 550 – 551 [11] ينظر: لطائف المعارف ص:263 [12] تذكرة الحفاظ 4/ 1332 [13] أخبار مكة للفاكهي 3 / 10 [14] فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/9 [15] مصنف ابن أبي شيبة 3 /250 [16] ينظر مصنف ابن أبى شيبة 2/300 [17] سير أعلام النبلاء 4/ 326 [18] مصنف ابن أبي شيبة 3 / 160 [19] المصدر السابق 3 / 160 [20] الداء والدواء. ص:30 [21] لطائف المعارف لابن رجب، ص: 272 [22] جامع بيان العلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سرطان الشرج والزائدة الدودية وأورام الدماغ

  سرطان الشرج  من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة سرطان الشرج       رسم بياني يوضح سرطان الشرج في مراحله الأولى الاختصاص علم الأورام ...